الخميس، 6 يناير 2011

الترسيب



الترسيب



"لم يعد يلتفت، ينظر إلى السقف ويأتي بإيماءات رمزية، عيناه لم تعد لهما صلة بأعين البشر، زبيبتان كبيرتان ترصعان وجهًا يختلف جدًا عن وجهه القديم، يا له من بسكويت!"
***




(1)
صباحٌ لا مراء فيه، كالنبوّة، لماذا أفتتن بضوء الشمس بعد طول هذا العمر، عمري، وعمر الشمس، وعمر الأرض، وعمر الإنسان؟ كثيرًا أتساءل عن مشهد تلك الشمس التي سطعت على الديناصورات، أو على وجه إنسان نياندرثال، شمس لم تكن قد علاها صدأ الحضارة وعادم السيارات والطائرات، لم تكن ضعفت بطاريتها، ربما لم تكن في المتناول إلى هذا الحد، ربما كانت بعيدة جدًا كالنجوم، أو قريبة تلمس الأرض بألسنة لهيبها، كنت أتبع شعاع الشمس الوليد وهو يتسلل إلى حجرتي الصغيرة الباردة مغلقة النوافذ الزجاجية كحوض السمك، أنا سمكة في حوض، ربما يداعبني الملائكة بالطرق على زجاج الحوض بأطراف الأنامل، ربما يتسلون بتأملي ضوء الشمس ودهشتي المتكررة كل صباح.
كما ترون.. هذه حجرة معيشتي، أعيش فيها وحدي بلا امرأة، وبقليل من الأشياء، أستمتع بالاستماع إلى الفراغ ومشاهدة الصمت، أتريدون شايًا؟ لديّ أكوابٌ محدودة لا أستعمل أغلبها، إنها تلعب دور الثريا حين تنعكس عليها الشمس الطفلة ذات اللثغة، لماذا تنطق الشمسُ السينَ ثاءً في الصباح؟
من يرد استعمال الحمام منكم فهو على اليمين، أنت.. أرجوك لا تدخل هناك، تلك حجرة الفحص، هذه عيادة خاصّة كما تلاحظ، لن أعيد ترتيبَ كل ما تعبث به، لقد فرغت توًّا من ترتيب العالم الذي بعثره يونسكو وبيكيت وكامو أمس، أنا لا أطيق الفوضى.
لن يأتيني أحد قبل انتصاف النهار، لماذا يلتئم النهار كلما انتصف؟
هدوء..
لا شيء..
النقاء الكوني..
وحدة الوجود الحقة أن توجد وحدك.
المتصوّفة يصعدون سلمًا لا ينتهي.
هيجل غامض.
يحب المثلثات.
يكره رائحة الدخان.
ماركس لا يحب الدخان.
لكنه يؤمن أن الفكر ناتج احتراق المخ.
كل هذا كلام فارغ.
الحقيقة تُخلق هنا.
الألم البشري هو الحق.
وأنا الكاهن.
هدوء..
لا شيء..
النقاء..
كل ممتلكات الله في أمان.
لماذا يلتئم النهار؟
لن يأتيني أحد قبل انتصافه.
ماذا لو لم ينتصف؟
...................
دعوني أعدّ لكم شايًا.
(2)
غريب! أنتم تسمعون ذلك بلا شكّ.
خطوات مريضٍ يصعد درجي، أحدهم يطلب الكاهن، لا أحد في هذا الطابق المرتفع غيري، لا أحد في هذه السماء سواي، ماذا لو صدر قرار إزالة للسماء الزائدة؟ أأجد نفسي في الأرض؟ أتمنى ألا يصل البشر إلى هذا المستوى من الروتين.
أحدهم قادم قبل انتصاف النهار، أحدهم يعاني من حالة وَحْي متقدمة، إنه يتألم، أشعر بألمه في الأرضية، في سور الدرج، في ملامسة سبابته لمفتاح الجرس، كل شيء عبارة عن ذبذبات أوتار، هكذا فهمتُ نظرية الوتر الفائق.
لا أذكر كيف استقبلتُه، ها هو جالس أمام مكتبي، وجهٌ كوجوه الدمى، وسيم كأنه مرسوم، رجل في منتصف العمر، تحدثتْ النظرات: أنا مريض-أنا أعرف-أنا أعرف أنك تعرف-أعرف أيضًا أنك خائف-هل تحب الموسيقى الكلاسيكية؟-لا تدّع اتساع الأفق لأنك ضحل الروح، إن روحك لا تعلو جلدك سوى بملليمترات قليلة، حتى إنني أراه بوضوح، وجوه الدمى من أمثالك يصلحون للعرض فقط، وادعاء البراءة أمام الأطفال، والأناقةِ أمام الكبار، والحياة أمام الجميع، لا أعرف لماذا كانت تبدو عينا هذا الرجل حين تثبتان كعينيْ ميتٍ.
هدوء..
لا شيء..
إنني أتلقى وَحْيه، الألم وَحْي يُسمع بالجلد ويُكتب بالأعصاب، غريبٌ ألم هذا الرجل! كأنما يُعزف على أرغن متحشرج، آلاف القصبات الصائتة المكتومة، كآلاف المزامير التي وقفت في حلوقها تفاحات آدم.
حين حرك فاه لينطق أدركت المشكلة، إنه يحرك فكيه بخشونة كأنما يمضغ حجرًا، ملامحه نفسها متصلبة توشك أن تنكسر، حالة تصلب عامة في الجلد والعضلات، مع ذلك غريبة جدًا بالنسبة لي.
-أنا أعاني من تكلسات يا دكتور.
-ما معنى تكلسات؟
-مركب ما يدخل فيه الكالسيوم، لا أدري بدقة، أنا أتغيّر.
-تعني أنك تتكلس؟
-لم أقل غير هذا.
-لأنك لا تعرف هذا، سنأخذ عينةً، والآن.. دعني أعد لك شايًا.
-لا داعي أرجوك.
وغاب الرجل، حين يرحل المرضى يرحلون كالموتى، لم أذكر قط مشهد أي مريض وهو ينصرف ولا وقع رجليه.
مرّ يومان، وجاء تقرير فحص العينة كالتالي:
· Flour ..%
· Sugar ..%
· Baking powder ..%
· Salt ..%
· Albumin ..%
· Oil ..%
· Vanilla ..%
· Orange juice ..%
· Butter ..%
· Red raspberry preserve ..%
· Ground nuts ..%
· Raisins ..%
دقيق؟ سكر؟ بيكنج بودر؟ ملح؟؟ هل هذه مركبات العينات التي أخذتها من جلده وفمه؟
سأغيب قليلاً عن المشهد، يجب أن أسأل المعمل، أن أفكر، أن أبحث عن مرض يحوّل الإنسان إلى بسكويتة مملحة.
(3)
باخ يجلس على الأرغن ويعزف المزامير.
باخ الذي يسبّح الأرغن بين يديه.
قد عاد الرجل.
(4)
حين عاد كان أكثر بطئًا، أكثر تصلبًا، وأكثر معاناة حين الكلام، تحدثتْ النظرات: دعني أعد لك شايًا-لا داعي أرجوك.
حين صافحته لاحظت خوفه، لاحظت أيضًا بعض الفتات، مرحى! اجلس ودعني أخفك بما اكتشفته.
طبعًا لم يجلس.
-ظهري يا دكتور، أخشى أن..
-فلتنم على سرير الفحص مفرود الظهر، لا داعي أن تبقى واقفًا إلى الأبد.
-أنت لا تدري حالة ظهري يا دكتور.
فعلاً لم تكن لديّ فكرة، هذا غريب أيضًا، خشونة ظاهرة، بل نقوش سطحية، كأنها خطوط طولية متصلة، ربما تقطعها خطوط عرضية أو منحنيات، لست أدري، أيًا كان هذا فهو جميل.
-هذا جديد.
-هناك جديد آخر، عيناي تجحظان.
-أنت واعٍ بجسدك كعارضة أزياء.
-كلا يا دكتور، إنهما تؤلمان، كما أنني لم أعد أستطيع تحريكهما.
فعلاً منذ جاء هذه المرة وهو يلتفت بمجمل رأسه.
-هذا التقرير ليس فيه جديد يا دكتور، إنني أذوق فمي بنفسي، هذا لا يعني أنني لست خائفًا، لكنني أتصلب وأخشى أن أكسر شيئًا يصعب إصلاحه.
-أريد وقتًا لسؤال زملائي، لأنْ أفكر، لأبحث عما يجب أن أبحث عنه، ذُبْ الآن، ودعني أعد لك شايًا.
-هل تسخر منّي؟!
(5)
لا جديد، الرجل يزداد بسكويتًا، عرفت أن تاريخه المرضي تضمنَ السكّريّ.
لم أعد أستقبل أحدًا غيره.
سأعرف ماذا حل به، الآن أو فيما بعد، لو مات سأحتفظ بجثته لأفهم، لا أحد يُعاقب على الاحتفاظ ببعض البسكويت.
(6)
مرضٌ غريب، طبعًا مع ندرة الحالة وتدهورها السريع لن نعرف كيف يحدث، لكنه يشتمل على ترسيب مركبات الدقيق والسكر والزيت والعصير..إلخ، في الجلد ثم ما تحته حتى يصل إلى العظام والأعضاء الداخلية، بالضبط كما يقوم الجسم بترسيب أملاح الحصوات.
ربما لو أمكن أن نعكس الترسيب...
لكن هذا أشبه بأن نحاول إعادة بيضة مقلية إلى حالتها الأولى.
فكرت في هذا وأنا أمام سريره، لم يعد يغادره، كما أنه ينام على الأخشاب مباشرة ليتجنب الانكسار، لقد صار هشًا.
لم يعد يلتفت، ينظر إلى السقف ويأتي بإيماءات رمزية، عيناه لم تعد لهما صلة بأعين البشر، زبيبتان كبيرتان ترصعان وجهًا يختلف جدًا عن وجهه القديم، يا له من بسكويت!
نقوش جميلة تملؤه، على الأقل ليس رديء الصناعة على الإطلاق.
نظرتُ في عينيه الرمزيتين الرهيبتين، إنه يراني ولا أعرف كيف يراني، لكنه لا ينفعل، إنه لا يفعل أي شيء سوى أن يترسّب.
هذه فلسفة جديدة.
الوجود عملية ترسيب.
(7)
لا جديد، الترسيب يستمر بمعدل ثابت والرجل يدنو من التحول الكامل، لا أدري إن كان هذا سيؤدي إلى وفاته أم لا، لكن هذا أسوأ شيء، إنه يتآكل بشريًا ويمتلئ بالدقيق والسكر.
هذا مضحك!
(8)
يا للأسف!
الآن لا داعي للبحث عن علاج.
لقد فقد ساقًا وذراعًا.
في قصة الأنفس الميتة لجوجول قال مدير مكتب البريد أن البطل الذي شاهده الناس سليمًا مرارًا كان مجنّدًا حارب في حرب 1812 وفقدَ ساقًا وذراعًا، فضحكوا منه، لا أعرف لماذا تذكرت هذا الموقف بالذات وأنا أرمق الفراش الذي تناثرت عليه الفتات حول الجسد الناقص.
عينه أيضًا اختفت، والأخرى لم تعد في مكانها.
إنه النمل!
هذا ما لم أحسب حسابه.
في (فاصلة إيقاعات النمل) لمحمد عفيفي مطر يعيد النمل تكوين العالم المتفتت، هذا تنويع مبتكر على سفر التكوين، سفر تكوين حشري، يحدث الآن الأمر بالعكس، إنها ميتة غريبة.
هل ثمة علاقة بين داء السكريّ وما تعرض له الرجل من ترسيب؟
لن أعرف أبدًا.
***